فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
فلما علم ذلك كله وكانت الأمثال ألصق بالبال وأكشف للأحوال مثل حالهم في هداهم الذي باعوه بالضلالة بالأمور المحسوسة، لأن للتمثيل بها شأنًاعظيمًا في إيصال المعاني حتى إلى الأذهان الجامدة وتقريرها فيها بقوله تعالى: {مثلهم} أي في حالهم هذه التي طلبوا أن يعيشوا بها {كمثل الذي استوقد نارًا} أي طلب أن توقد له وهي هداه ليسير في نورها، وأصلها من نار إذا نفر لتحركها واضطرابها، فوقدت وأنارت.
{فلما أضاءت} أي النار، وأفراد الضمير باعتبار لفظ {الذي} فقال: {ما حوله} وأراد أن ينتفع بها في إبصار ما يريد، وهو كناية عما حصل لهم من الأمنة بما قالوه من كلمة الإسلام من غير اعتقاد {ذهب الله} الذي له كمال العلم والقدرة، وجمع الضمير نظرًا إلى المعنى لئلا يتوهم أن بعضهم انتفع دون بعض بعد أن أفراد تقليلًا للنور وإن كان قويًا في أوله لانطفائه في آخر فقال: {بنورهم} أي الذي نشأ من تلك النار بإطفائه لها ولا نور لهم سواه؛ ولم يقل: بضوئهم، لئلا يتوهم أن المذهوب به الزيادة فقط، لأن الضوء أعظم من مطلق النور {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورًا} [يونس: 5] فذهب نورهم وبقيت نارهم ليجتمع عليهم حرّها مع حر الفقد لما ينفعهم من النور، وعبر بالإضاءة أولًا إشارة إلى قوة أولهم وانمحاق آخرهم، لأن محط حالهم الباطل والباطل له صولة ثم تضمحل عند من ثبت لها ليتبين الصادق من الكاذب، وعبر بالذهاب به دون إذهابه ليدل نصًا على أنه سبحانه ليس معهم وحقق ذلك بالتعبير عن صيّر بترك فقال: {وتركهم في ظلمات} أي بالضلالة من قلوبهم وأبصارهم وليلهم أي ظلمات لا ينفذ فيها بصر، فلذا كانت نتيجته {لا يبصرون} أي لا إبصار لهم أصلًا ببصر ولا بصيرة. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{آذانهم} وبابه بالإمالة: نصير وأبو عمر.
{بالكافرين} وما أشبهها مما كان في محل الخفض بالإمالة: أبو عمر وقتيبة ونصير وأبو عمرو ويعقوب غير روح.
{شاء الله} حيث كان بالإمالة: حمزة وعلي وخلف وابن ذكوان.

.الوقوف:

{نارًا} لا لأن جواب {لما} منتظر لما فيها من معنى الشرط مع دخول فاء التعقيب فيها.
{لا يبصرون} O {لا يرجعون} O للعطف بأو وهو للتخيير، ومعنى التخيير لا يبقى مع الفصل. ومن جعل {أو} بمعنى الواو جاز وقفه لعطفه الجملتين مع أنها رأس آية. وقد اعترضت بينهما آية على تقدير ومثلهم كصيب.
{وبرق} ج لأن قوله: {يجعلون} يحتمل أن يكون خبر المحذوف، أي هم يجعلون، أو حالًا عامله معنى التشبيه في الكاف، وذو الحال محذوف أي كأصحاب صيب.
{الموت} ط {بالكافرين} O {أبصارهم} ط لأن كلما استئناف.
{فيه} لا لأن تمام المقصود بيان الحال المضاد للحال الأول {قاموا} ط و{أبصارهم} ط {قدير} O. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنا قبل الخوض في تفسير ألفاظ هذه الآية نتكلم في شيئين:
أحدها: أن المقصود من ضرب الأمثال أنها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، وذلك لأن الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقًا للعقل وذلك في نهاية الإيضاح، ألا ترى أن الترغيب إذا وقع في الإيمان مجردًا عن ضرب مثل له لم يتأكد وقوعه في القلب كما يتأكد وقوعه إذا مثل بالنور، وإذا زهد في الكفر بمجرد الذكر لم يتأكد قبحه في العقول كما يتأكد إذا مثل بالظلمة، وإذا أخبر بضعف أمر من الأمور وضرب مثله بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في تقرير صورته من الأخبار بضعفه مجردًا، ولهذا أكثر الله تعالى في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله، قال تعالى: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} [العنكبوت: 43، الحشر: 21] ومن سور الإنجيل سورة الأمثال. اهـ.
قال الفخر:
المثل في أصل كلامهم بمعنى المثل وهو النظير، ويقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه، ثم قيل للقول الثائر الممثل مضر به بمورده: مثل، وشرطه أن يكون قولًا فيه غرابة من بعض الوجوه. اهـ.

.قال أبو حيان:

المثل في أصل كلام العرب بمعنى المثل والمثيل، كشبه وشبه وشبيه، وهو النظير، ويجمع المثل والمثل على أمثال.
قال اليزيدي: الأمثال: الأشباه، وأصل المثل الوصف، هذا مثل كذا، أي وصفه مساوٍ لوصف الآخر بوجه من الوجوه.
والمثل: القول السائر الذي فيه غرابة من بعض الوجوه.
وقيل: المثل، ذكر وصف ظاهر محسوس وغير محسوس، يستدل به علي وصف مشابه له من بعض الوجوه، فيه نوع من الخفاء ليصير في الذهن مساويًا للأول في الظهور من وجه دون وجه.
والمقصود من ذكر المثل أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، لأن الغرض من ضرب المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته ويصير الحس مطابقًا للعقل.
والذي: اسم موصول للواحد المذكر، ونقل عن أبي علي أنه مبهم يجري مجرى مَن في وقوعه على الواحد والجمع.
وقال الأخفش: هو مفرد، ويكون في معنى الجمع، وهذا شبيه بقول أبي علي، وقال صاحب التسهيل فيه، وقد ذكر الذين، قال: ويغني عنه الذي في غير تخصيص كثيرًا وفيه للضرورة قليلًا وأصحابنا يقولون: يجوز أن تحذف النون من الذين فيبقي الذي، وإذا كان الذي لمفرد فسمع تشديد الياء فيه مكسورة أو مضمومة، وحذف الياء وإبقاء الذال مكسورة أو ساكنة، وأكثر أصحابنا على أن تلك لغات في الذي.
والاستيقاد: بمعنى الإيقاد واستدعاء ذلك، ووقود النار ارتفاع لهيبها.
والنار: جوهر لطيف مضيء حار محرق.
لما: حرف نفي يعمل الجزم وبمعنى إلا، وظرفًا بمعنى حين عند الفارسي، والجواب عامل فيها إذ الجملة بعدها في موضع جر، وحرف وجوب لوجوب عند سيبويه، وهو الصحيح لتقدمها على ما نفي بما، ولمجيء جوابها مصدرًا بإذا الفجائية.
الإضاءة: الإشراق، وهو فرط الإنارة.
وحوله: ظرف مكان لا يتصرف، ويقال: حوال بمعناه، ويثنيان ويجمع أحوال، وكلها لا تتصرف وتلزم الإضافة.
الذهاب: الانطلاق.
النور: الضوء من كل نير ونقيضة الظلمة، ويقال نار ينور إذا نفر، وجارية نوار: أي نفور، ومنه اسم امرأة الفرزدق، وسمي نورًا لأن فيه اضطرابًا وحركة.
الترك: التخلية، أترك هذا أي خله ودعه، وفي تضمينه معنى التصيير وتعديته إلى اثنين خلاف، الأصح جواز ذلك.
الظلمة: عدم النور، وقيل: هو عرض ينافي النور، وهو الأصح لتعلق الجعل بمعنى الخلق به، والإعدام لا توصف بالخلق، وقد رده بعضهم لمعنى الظلم، وهو المنع، قال: لأن الظلمة تسد البصر وتمنع الرؤية. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَارًا} فمثلهم رفع بالابتداء والخبر في الكاف، فهي اسم؛ كما هي في قول الأعْشَى:
أتنتهون ولن يَنْهَى ذوِي شَطَطٍ ** كالطعن يذهب فيه الزيتُ والفُتُلُ

وقول امرئ القيس:
ورُحْنَا بِكَابْنِ الماءِ يُجَنبُ وسطَنا ** تَصَوَّبُ فيه العينُ طَوْرًا وتَرْتقِي

أراد مثل الطعن، وبمثل ابن الماء.
ويجوز أن يكون الخبر محذوفًا؛ تقديره مثلهم مستقر كمثل؛ فالكاف على هذا حرف.
والمَثَل والمِثْل والمِثيل واحد ومعناه الشبيه.
والمتماثلان: المتشابهان؛ هكذا قال أهل اللغة.
قوله: {الذي} يقع للواحد والجمع.
قال ابن الشَّجَرِي هبةُ الله بن عليّ: ومن العرب من يأتي بالجمع بلفظ الواحد؛ كما قال:
وإن الذي حانَتْ بفَلْج دماؤهم ** هُمُ القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ

وقيل في قول الله تعالى: {والذي جَاءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ أولئك هُمُ المتقون} [الزمر: 33] إنه بهذه اللغة، وكذلك قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي} قيل: المعنى كمثل الذين استوقدوا، ولذلك قال تعالى: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ}؛ فحمل أوّل الكلام على الواحد، وآخره على الجمع.
فأما قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} [التوبة: 69] فإن الذي هاهنا وصف لمصدر محذوف تقديره وخضتم كالخوض الذي خاضوا.
وقيل: إنما وحّدَ {الذي} و{استوقد} لأن المستوقد كان واحدًا من جماعة تولّى الإيقاد لهم، فلما ذهب الضوء رجع عليهم جميعًا فقال: {بنورهم}.
واستوقد بمعنى أوقد؛ مثل استجاب بمعنى أجاب؛ فالسين والتاء زائدتان، قاله الأخفش؛ ومنه قول الشاعر:
وداعٍ دَعَا يا من يُجيب إلى النَّدَى ** فلم يَستجِبْه عند ذاك مُجِيبُ

أي يجبه.
واختلف النحاة في جواب لمّا، وفي عود الضمير من {نورهم}؛ فقيل: جواب لمّا محذوف وهو طَفِئت، والضمير في {نورهم} على هذا للمنافقين، والإخبار بهذا عن حال تكون في الآخرة؛ كما قال تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} [الحديد: 13].
وقيل: جوابه {ذهب} والضمير في {نورهم} عائد على {الذي}؛ وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردُّده.
والمعنى المرادُ بالآية ضَرْبُ مَثَلٍ للمنافقين، وذلك أن ما يظهرونه من الإيمان الذي تثبت لهم به أحكام المسلمين من المناكح والتوارث والغنائم والأمن على أنفسهم وأولادهم وأموالهم بمثابة من أوقد نارًا في ليلة مظلمة فاستضاء بها ورأى ما ينبغي أن يتقيه وأمن منه؛ فإذا طَفِئت عنه أو ذهبت وصل إليه الأذى وبقي متحيرًا؛ فكذلك المنافقون لما آمنوا اغتروا بكلمة الإسلام، ثم يصيرون بعد الموت إلى العذاب الأليم كما أخبر التنزيل: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145] ويذهب نورهم؛ ولهذا يقولون: {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13].
وقيل: إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار؛ وانصرافهم عن مودتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها. وقيل غير هذا. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَارًا} روى معاوية بن طلح، عن علي بن أبي طلحة، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في شأن اليهود الذين هم حوالي المدينة، فقال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ} يعني كمثل من كان في المفازة في الليلة المظلمة وهو يخاف السباع، فأوقد نارًا فأمن بها من السباع، {فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ} طفئت ناره وبقي في الظلمة، كذلك اليهود الذين كانوا حوالي المدينة كانوا يقرون بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج، وكانوا إذا حاربوا أعداءهم من المشركين يستنصرون باسمه فيقولون بحق نبيك أن تنصرنا، فلما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة، حسدوه وكذبوه وكفروا به فطفئت نارهم وبقوا في ظلمات الكفر.
وقال مقاتل: نزلت في المنافقين، يقول: مثل المنافق مع النبي صلى الله عليه وسلم كمثل رجل في مفازة فأوقد نارًا فأمن بها على نفسه واهله وعياله وماله، فكذلك المنافق يتكلم بلا إله إلا الله مراءاة الناس، ليأمن بها على نفسه وأهله وعياله وماله ويناكح مع المسلمين، وكان له نور بمنزلة المستوقد النار يمشي في ضوءها ما دامت ناره تتقد، فلما أضاءت النار أبصر ما حوله بنورها وذهب نورها فبقي في ظلمة. اهـ.

.قال الفخر:

إنه تعالى لما بين حقيقة صفات المنافقين عقبها بضرب مثلين زيادة في الكشف والبيان.
أحدهما: هذا المثل وفيه إشكالات:
أحدها: أن يقال: ما وجه التمثيل بمن أعطي نورًا ثم سلب ذلك النور منه مع أن المنافق ليس له نور.
وثانيها: أن يقال: إن من استوقد نارًا فأضاءت قليلًا فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم، فأما المنافقون فلا انتفاع لهم ألبتة بالإيمان فما وجه التمثيل؟
وثالثها: أن مستوقد النار قد اكتسب لنفسه النور، والله تعالى ذهب بنوره وتركه في الظلمات، والمنافق لم يكتسب خيرًا وما حصل له من الخيبة والحيرة فقد أتى فيه من قبل نفسه، فما وجه التشبيه؟ والجواب: أن العلماء ذكروا في كيفية التشبيه وجوهًا:
أحدها: قال السدي: إن ناسًا دخلوا في الإسلام عند وصوله عليه السلام إلى المدينة ثم إنهم نافقوا، والتشبيه هاهنا في نهاية الصحة لأنهم بإيمانهم أولًا اكتسبوا نورًا ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النور ووقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين لأن المتحير في طريقه لأجل الظلمة لا يخسر إلا القليل من الدنيا، وأما المتحير في الدين فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبد الآبدين.
وثانيها: إن لم يصح ما قاله السدي بل كانوا منافقين أبدًا من أول أمرهم فههنا تأويل آخر ذكره الحسن رحمه الله، وهو أنهم لما أظهروا الإسلام فقد ظفروا بحقن دمائهم وسلامة أموالهم عن الغنيمة وأولادهم عن السبي وظفروا بغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين، وعد ذلك نورًا من أنوار الإيمان، ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدائم قليلًا قدرت شبههم بمستوقد النار الذي انتفع بضوئها قليلًا ثم سلب ذلك فدامت حيرته وحسرته للظلمة التي جاءته في أعقاب النور، فكان يسير انتفاعهم في الدنيا يشبه النور وعظيم ضررهم في الآخرة يشبه الظلمة.
وثالثها: أن نقول ليس وجه التشبيه أن للمنافق نورًا، بل وجه التشبيه بهذا المستوقد أنه لما زال النور عنه تحير، والتحير فيمن كان في نور ثم زال عنه أشد من تحير سالك الطريق في ظلمة مستمرة، لكنه تعالى ذكر النور في مستوقد النار لكي يصح أن يوصف بهذه الظلمة الشديدة، لا أن وجه التشبيه مجمع النور والظلمة.
ورابعها: أن الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به، وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنفاق، ومن قال بهذا قال إن المثل إنما عطف على قوله: {وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ} فالنار مثل لقولهم: {آمنا} وذهابه مثل لقولهم للكفار: {إنا معكم} فإن قيل وكيف صار ما يظهره المنافق من كلمة الإيمان مثلًا بالنور وهو حين تكلم بها أضمر خلافها؟ قلنا إنه لو ضم إلى القول اعتقادًا له وعملًا به لأتم النور لنفسه، ولكنه لما لم يفعل لم يتم نوره، وإنما سمى مجرد ذلك القول نورًا لأنه قول حق في نفسه.
وخامسها: يجوز أن يكون استيقاد النار عبارة عن إظهار المنافق كلمة الإيمان وإنما سماه نورًا لأنه يتزين به ظاهره فيهم ويصير ممدوحًا بسببه فيما بينهم، ثم إن الله تعالى يذهب ذلك النور بهتك ستر المنافق بتعريف نبيه والمؤمنين حقيقة أمره فيظهر له اسم النفاق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان فبقي في ظلمات لا يبصر، إذ النور الذي كان له قبل قد كشف الله أمره فزال.
وسادسها: أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات.
وسابعها: يجوز أن يكون المستوقد هاهنا مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى، والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار، فإن الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء، ألا ترى إلى قوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} [المائدة: 64] وثامنها: قال سعيد بن جبير: نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلما خرج كفروا به فكان انتظارهم لمحمد صلى الله عليه وسلم كإيقاد النار، وكفرهم به بعد ظهوره كزوال ذلك النور. اهـ.
فصل: جماليات تشبيه الإيمان بالنور والكفر بالظلمة:
قال الفخر:
فأما تشبيه الإيمان بالنور والكفر بالظلمة فهو في كتاب الله تعالى كثير، والوجه فيه أن النور قد بلغ النهاية في كونه هاديًا إلى المحجة وإلى طريق المنفعة وإزالة الحيرة وهذا حال الإيمان في باب الدين، فشبه ما هو النهاية في إزالة الحيرة ووجدان المنفعة في باب الدين بما هو الغاية في باب الدنيا، وكذلك القول في تشبيه الكفر بالظلمة، لأن الضال عن الطريق المحتاج إلى سلوكه لا يرد عليه من أسباب الحرمان والتحير أعظم من الظلمة، ولا شيء كذلك في باب الدين أعظم من الكفر، فشبه تعالى أحدهما بالآخر، فهذا هو الكلام فيما هو المقصود الكلي من هذه الآية، بقيت هاهنا أسئلة وأجوبة تتعلق بالتعلق بالتفاصيل:
السؤال الأول: قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَارًا} يقتضى تشبيه مثلهم بمثل المستوقد، فما مثل المنافقين ومثل المستوقد حتى شبه أحدهما بالآخر؟ والجواب: استعير المثل للقصة أو للصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنه قيل قصتهم العجيبة كقصة الذي استوقد نارًا، وكذا قوله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} [الرعد: 35] أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} [النحل: 60] أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة {مَثَلُهُمْ في التوراة} [الفتح: 29] أي وصفهم وشأنهم المتعجب منه ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا: فلان مثله في الخير والشر، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن.
السؤال الثاني: كيف مثلت الجماعة بالواحد؟ والجواب من وجوه:
أحدها: أنه يجوز في اللغة وضع {الذي} موضع {الذين} كقوله: {وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ} [التوبة: 69] وإنما جاز ذلك لأن {الذي} لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة مجملة وكثرة وقوعه في كلامهم، ولكونه مستطالًا بصلته فهو حقيق بالتخفيف، ولذلك أعلوه بالحذف فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا فيه على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين.
وثانيها: أن يكون المراد جنس المستوقدين أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد نارًا.
وثالثها: وهو الأقوى: أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد وإنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد.
ومثله قوله تعالى: {مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار} [الجمعة: 5] وقوله: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} [محمد: 20] ورابعها: المعنى ومثل كل واحد منهم كقوله: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] أي يخرج كل واحد منكم.
السؤال الثالث: ما الوقود؟ وما النار؟ وما الإضاءة؟ وما النور؟ ما الظلمة؟
الجواب: أما وقود النار فهو سطوعها وارتفاع لهبها، وأما النار فهو جوهر لطيف مضيء، حار محرق، واشتقاقها من نارينور إذا نفر؛ لأن فيها حركة واضطرابًا، والنور مشتق منها وهو ضوؤها، والمنار العلامة، والمنارة هي الشيء الذي يؤذن عليه.
ويقال أيضًا للشيء الذي يوضع السراج عليه، ومنه النورة لأنها تطهر البدن والإضاءة فرط الإنارة، ومصداق ذلك قوله تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُورًا} [يونس: 5] وأضاء يرد لازمًا ومتعديًا.
تقول: أضاء القمر الظلمة، وأضاء القمر بمعنى استضاء قال الشاعر:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ** دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

وأما ما حول الشيء فهو الذي يتصل به، تقول دار حوله وحواليه، والحول السنة لأنها تحول، وحال عن العهد أي تغير، وحال لونه أي تغير لونه، والحوالة انقلاب الحق من شخص إلى شخص، والمحاولة طلب الفعل بعد أن لم يكن طالبًا له، والحول انقلاب العين، والحول الانقلاب، قال الله تعالى: {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 108] والظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير، والظلمة في أصل اللغة عبارة عن النقصان قال الله تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] أي لم تنقص وفي المثل: من أشبه أباه فما ظلم، أي فما نقص حق الشبه، والظلم الثلج لأنه ينتقص سريعًا والظلم ماء السن وطراوته وبياضه تشبيهًا له بالثلج.
السؤال الرابع: أضاءت متعدية أم لا؟
الجواب: كلاهما جائز، يقال: أضاءت النار بنفسها وأضاءت غيرها وكذلك أظلم الشيء بنفسه وأظلم غيره أي صيره مظلمًا، وههنا الأقرب أنها متعدية، ويحتمل أن تكون غير متعدية مستندة إلى ما حوله والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة {ضاء}.
السؤال الخامس: هلا قيل ذهب الله بضوئهم لقوله: {فَلَمَّا أَضَاءتْ}؟ الجواب: ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة، فلو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم ذهاب الكمال وبقاء ما يسمى نورًا والغرض إزالة النور عنهم بالكلية.
ألا ترى كيف ذكر عقيبه: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ} والظلمة عبارة عن عدم النور، وكيف جمعها، وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة خالصة وهو قوله: {لاَّ يُبْصِرُونَ} السؤال السادس: لم قال: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} ولم يقل أذهب الله نورهم والجواب: الفرق بين أذهب وذهب به أن معنى أذهبه أزاله وجعله ذاهبًا، ويقال ذهب به إذا استصحبه، ومعنى به معه، وذهب السلطان بماله أخذه قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} [يوسف: 15] {إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91] والمعنى أخذ الله نورهم وأمسكه {وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ} [فاطر: 2] فهو أبلغ من الإذهاب وقرأ اليماني {أذهب الله نورهم}.
السؤال السابع: ما معنى {وتركهم}؟ والجواب: ترك إذا علق بواحد فهو بمعنى طرح وإذا علق بشيئين كان بمعنى صير، فيجري مجرى أفعال القلوب ومنه قوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات} أصله هم في ظلمات ثم دخل ترك فنصبت الجزئين.
السؤال الثامن: لم حذف أحد المفعولين من لا يبصرون؟ الجواب: أنه من قبيل المتروك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي، كأن الفعل غير متعد أصلًا. اهـ.